رحمة الراعي

متفرقات

رحمة الراعي

 

رحمة الراعي

 

 

أجرى قداسة البابا فرنسيس صباح اليوم الأربعاء مقابلته العامّة مع المؤمنين في ساحة القدّيس بطرس واستهلّ تعليمه الأسبوعيّ بالقول نعرف جميعًا صورة الرّاعي الصّالح الذي يحمل على كتفَيه الخروف الضّائع.

 

إنّ هذه الأيقونة تمثّل على الدّوام اهتمام يسوع بالخطأة ورحمة الله الذي لا يستسلم أبدًا لفقدان أحد. يخبر يسوع المثل ليفهمنا أنّه لا ينبغي أن يُشكِّكنا قربه من الخطأة، بل على العكس ينبغي أن يولّد في الجّميع تأمُّلاً جادًّا حول كيفيّة عيشنا لإيماننا. تُقدّم لنا الرّواية من جهّة الخاطئين الذين يقتربون من يسوع ليُصغوا إليه ومن جهّة أخرى علماء الشّريعة والكتبة المُشكِّكين الذين يبتعدون عنه بسبب تصرّفه هذا. كانوا يبتعدون لأنّ يسوع كان يقترب من الخطأة؛ وهؤلاء كانوا مغرورين ومتكبّرين ويعتبرون أنفسهم أبرارًا.   

 

 إنّ مثلنا يتمحور حول ثلاث شخصيّات: الرّاعي، الخروف الضّائع وباقي القطيع. لكنّ الذي يعمل هو الرّاعي فقط، ولا الخراف. فالرّاعي إذًا هو الرّائد الحقيقيّ الوحيد وكلّ شيء متعلّق به. يبدأ المثل بسؤال: "أَيُّ امرِئٍ مِنكُم إِذا كانَ لَه مِائةُ خروف فأَضاعَ واحِداً مِنها، لا يَترُكُ التِّسعَةَ والتِّسعينَ في البَرِّيَّة، ويَسْعى إِلى الضَّالِّ حتَّى يَجِدَه؟" (لو15 / 4). إنّها مُفارقة تحمل على الشّكّ في تصرّف الرّاعي: هل هو أمر حكيم أن يترك التّسعة والتّسعين من أجل خروف واحد؟ وفضلاً عن ذلك لا في حظيرة آمنة بل في البرّيّة؟ إنَّ البرّيّة بحسب التقليد البيبليّ هي مكان موت حيث يَصعُب إيجاد الطّعام والماء، بدون ملجأ وعرضة للحيوانات المفترسة واللّصوص.

 

 ماذا بإمكان الخراف التّسعة والتّسعين الضّعيفة أن تفعل؟ تستمرُّ المُفارقة مع القول بأنّ الرّاعي وإذا وجد الخروف "حَمَله على كَتِفَيهِ فَرِحاً، ورجَعَ بِه إِلى البَيت ودَعا الأَصدِقاءَ والجيرانَ وقالَ لَهم: إِفرَحوا معي" (لو15/ 6). يبدو إذًا أنّ الرّاعي لا يعود إلى البرّيّة ليسترجع القطيع كلّه! وإذ يندفع نحو ذاك الخروف الوحيد يبدو أنّه ينسى أمر التِّسعَةَ والتِّسعينَ. ولكن في الواقع ليس الأمر هكذا.

 

إنّ التّعليم الذي يريد يسوع أن يعطينا إيّاه هو أنّه لا يمكن لأيّ خروف أن يضيع. فالربّ لا يمكنه أن يستسلم لواقع أنّه يمكن لإنسان واحد أن يضيع. إنَّ تصرّف الله هو تصرُّف من يذهب بحثًا عن الأبناء الضّائعين ليحتفل بعدها ويفرح مع الجميع لأنّه وجدهم. إنّها رغبة لا يمكن كبتها: ولا حتى الخراف التّسعة والتّسعين بإمكانها أن توقف الرّاعي وتحبسه في الحظيرة.

 

كان بإمكان الرّاعي أن يفكّر بهذا الشّكل: "سأقيّم الوضع: لديّ تسعة وتسعين، وأضعت واحدًا، ولكنّ الخسارة ليست كبيرة" ولكنّه ذهب بحثًا عن الضّال، لأنّ كلّ خروف هو مهمّ بالنّسبة له، وهذا الخروف بالذّات هو الأكثر تهميشًا ويحتاج للمساعدة ولذلك يبحث عنه.

 

لقد تمّ إعلامنا جميعًا: الرّحمة تجاه الخطأة هو أسلوب تصرُّف الله، وهو أمين بالكامل لهذه الرّحمة: ما من شيء أو أحد يمكنه أن يبعده عن رغبته بالخلاص. إنّ الله لا يعرف ثقافة الإقصاء الحاليّة التي نعيشها، ولا دخل له بها؛ الله لا يُقصي أحدًا، هو يحبّ الجميع ويبحث عن الجميع كلّ بمفرده! هو لا يعرف معنى هذه الكلمة "إقصاء الأشخاص"، لأنّه كلّه محبّة ورحمة.  

 

 إنّ قطيع الربّ يسير على الدّوام: هو لا يملك الربّ، ولا يمكنه أن يوهم نفسه بسجنه داخل مخطّطاتنا واستراتيجيّاتنا. سنجد الرّاعي حيث يكون الخروف الضّال، وبالتّالي ينبغي علينا أن نبحث عن الربّ حيث يريد هو أن يلتقي بنا، وليس حيث ندّعي بإيجاده! ما من طريقة أخرى لإعادة جمع القطيع إلاّ من خلال إتّباع الدّرب التي رسمتها رحمة الرّاعي. وفيما يبحث عن الخروف الضّائع، يحثّ التِّسعَةَ والتِّسعينَ على المشاركة في إعادة توحيد القطيع. وبالتّالي لن يتبع الرّاعي الخروف الذي حمله على كتفيه فقط، وإنّما القطيع كلّه وصولاً إلى بيته ليحتفل مع "الأصدقاء والجيران".

 

 ينبغي علينا أن نتأمّل غالبًا في هذا المثل، لأنّه في الجماعة المسيحيّة هناك على الدّوام أحد قد غاب وترك مكانه فارغًا. قد يكون هذا الأمر محبطًا أحيانًا ويحملنا على الإعتقاد بأنّها خسارة لا يمكن تفاديها، ومرض لا علاج له. فنعيش عندها خطر الإنغلاق داخل حظيرة حيث لن تكون هناك رائحة الخراف وإنّما رائحة مكان مغلق!

 

ونحن المسيحيّون؟ لا ينبغي علينا أن نكون منغلقين لأنّه ستفوح عندها منّا رائحة المكان المُغلق. لذلك ينبغي علينا أن نخرج وألا ننغلق على أنفسنا في جماعاتنا الصّغيرة ورعايانا مُعتبرين أنفسنا أبرارًا. هذا الأمر يحصل عندما يغيب الإندفاع الرسوليّ الذي يحملنا للقاء الآخرين.

 

 في رؤية يسوع لا توجد خراف ضائعة بشكلٍ نهائيّ، وإنّما خراف ينبغي إيجادها. علينا أن نفهم هذا الأمر جيّدًا: لا أحد يضيع بشكل نهائيّ بالنسبة لله! لأنّ الله يبحث عنّا حتى آخر لحظة! فكّروا بلصّ اليمين؛ في رؤية يسوع لا أحد يضيع بشكلٍ نهائيّ.

 

بالتّالي فإنّ وجهة النّظر هي ديناميكيّة، منفتحة، مُحفِّزة وخلاّقة. تدفعنا للخروج للبحث والإنطلاق في مسيرة أخوّة. لا يُمكن لأيّ مسافة أن تترك الرّاعي بعيدًا؛ ولا يمكن لأيّ قطيع أن يستغني عن أخ. إيجاد الضّائع هو فرح الرّاعي والله، وإنّما أيضًا فرح القطيع بأسره! جميعنا خراف وجدتها رحمة الربّ وجمعتها، ومدعوّون لنجمع معه القطيع كلّه.

 

 

إذاعة الفاتيكان.